حين تثور الفتنة في كل زمان
حين تثور الفتنة في كل زمان تختلط الأوراق
وتدلهم الأمور ويحدث الاختلاف والتفرق ويكثر القيل والقال، وتغوص في الأوحال أقدام
كثيرة، ويسعى بالحق أقوام ويعجز عنه آخرون، ويظهر طابور النفاق مخذلين ومرجفين،
وينال أعداء الملة من الأمة بتفرقها وفتنتها ما لم ينالوه بسيوفهم
ورماحهم.
وهكذا هي الفتنة على مرِّ العصور، وكم للفتن من فضائح؛ فقد هتكت الستور
وأهين فيها الغيور، كُسر بابها كسراً وهو الفاروق ـ رضي الله عنه ـ ثم سقط بها
الشهيد المبتلى ذو النورين ـ رضي الله عنه ـ ودماؤه على مصحفه، واغتيل بها بطل
الإسلام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ على يد الخارجي عبدالرحمن بن ملجم، وحُمل
بها رأس الحسين رضي الله عنه إلى خصومه، وصُلب بها ابن الزبير على ثنية مكة فارساً
لا يترجَّل، وعُلِّق بها إمام أهل السنة أحمد بن حنبل وجُلد وعذِّب
وسُجن.
والناس في ذلك كله ما بين ماشٍ في الفتنة أو قائم وثالث قاعد، وآخرهم خير
من ثانيهم، وثانيهم خير من أولهم، كما جاء بذلك الخبر عن نبينا عليه الصلاة
والسلام.
أما كلمة الحق فقد وجدت من بين الدماء والأشلاء والسيوف والسياط من
يصدح بها قوية مدوِّية حين وقفت أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ أمام الطاغية
الحجَّاج بن يوسف، وهي عجوز قاربت المئة لتقول: "أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: يخرج من ثقيف كذاب ومبير؛ أما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا
أخالك إلا إياه". وحين حُمل رأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد، أخذ ينظر إليه ـ
وكان من أجمل الناس صورة وأشدهم شبهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ـ فأخذ يحرِّك
شفتيه برأس السيف، فقام إليه عائذ بن عمرو ـ رضي الله عنه، وهو من الصحابة، بعد أن
شاخ وكبُر، فقال: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّ شرّ الرعاة
الحطمة. ولقد رأيته يقبِّل هاتين الشفتين"، فصرخ به عبيد الله، فقال: "اسكت فإنما
أنت من نخالة أصحاب محمد" فرفع صوته قائلاً: "والله ما كان فيهم نخالة، وإنَّما
النخالة فيمن جاء بعدهم" ثمَّ خرج من عنده.
وها هو الإمام أحمد بن حنبل في محنته
يعرض على السيف مرات عديدة ويركب الأسنة ويرد على قول المعتزلة حتى قيل
عنه:
"إنَّ الله أيَّد هذا الدين بأبي بكر يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم
المحنة".
والحق أنَّ الفتنة عندما تختلط الأمور وتشتبه المسائل ويكثر الدعاة إلى
الباطل، تسري على قلوب كثيرة لم ترسخ في العلم؛ ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه
وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح
الدجَّال".
وبعض الناس قد يستدل بالكثرة على الحق، أو يغتر بالرموز الذين هم
بشرٌ ليسوا بمعصومين، ويتزين لهم بالباطل، ويستوحشون من الحق، كما قيل:
ضحكت
وجوه التُّرَّهات ولم يزل .. وجه الحقيقة في الأنام عَبوسا
لكن الحق عليه نور
يتلألأ يشق غبار الباطل، وإنَّ الله ليؤيد هذا الدين بغرس من عنده قد غرس كرامتهم
بيده عزّ وجل، يأخذون الكتاب بقوة، ومن خلفهم آخرون ينصرون ويؤيدون بقول أو عمل أو
صادق دعوات.
ولقد سجَّل التاريخ مواقف الرجال في الفتنة ما بين ناصر للحق وقاعد
متخاذل، فنرفع رؤوسنا عزة برجال نصروا الحق وأيدوه حتى ولو لم نعرفهم بأسمائهم،
منهم ذلك الأعرابي الذي قال عنه الإمام أحمد رحمه الله: "ما وجدت في ذلك الأمر أقوى
من كلمة إعرابي كلمني بها وأنا في رحبة طوق فقال: يا أحمد، إن يقتلك الحق مت
شهيداً، وإن عشت عشت حميداً، قال: فقوَّى بها قلبي" وكان في طريقه إلى المأمون
لامتحانه.
بينما نطرق رؤوسنا خجلاً من أقوام اكتفوا بإيثار السلامة، ولعلهم في
ذلك معذورون، منهم من قال عنه الذهبي ـ رحمه الله ـ: "إنَّ الناس جاؤوا إليه
فقالوا: إنَّ الإمام أحمد قد حُمل وقد وجب عليك أن تتكلَّم، فقال: تريدون مني مقام
الأنبياء؟! حفظ الله الإمام أحمد من بين يديه ومن خلفه".
وحين سكنت ثائرة الفتنة
وأظهر الله السنة، جاء بعض العلماء إلى الإمام أحمد ليعتذروا عن خذلانهم له، فقال:
والله لقد جعلتُ الميت في حلِّ من ضربه إياي فكيف بكم؟!" يقصد الخليفة بعد
موته.
وهكذا تسقط أبنية الضرار، وينكشف السراب الذي كان فوق الربوة، أمام
التأصيل الشرعي والغيرة المنضبطة والالتفاف حول الراسخين في العلم وتأييدهم. وإنَّ
الأمة أحوج ما تكون اليوم إلى فقه الفتن والتعامل معها، ومعرفة العواصم من القواصم،
بعد أن أطلت الفتنة برؤوسها من كل صوب، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك ـ أخي
القارئ ـ وكن حذراً من الوقوع فيها، وابحث عن نفسك: أين أنت؟!
أسأل الله تعالى
أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه وتقبلوا تحياتي